قصة الثلاثة الذين خلّفوا  

القصة ما رواه الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب المغازي؛ حيث روى عن كعب بن مالك قال: “لم أتخلّف عن رسول الله في غزوة غزاها، إلا غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدًا تخلّف عنها، إنما خرج رسول الله يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر في حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عني قبلها راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة

ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، وعدوًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير لا يجمعهم كتاب حافظ؛ قال كعب: فما رجل يريد أن يغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال،

 وتجهّز رسول الله والمسلمون معًا، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع، ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الحر، فأصبح رسول الله معه ولم أقضِ من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فَصَلوا لأتجهز فرجعت ولم أقضِ شيئًا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وسبقوا وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدَّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء.

ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟! فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله: حبسه برداه، والنظر في عطفيه؛ فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله – يا رسول الله- ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛

قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟! واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فما قيل أن رسول الله قد أظل قادمًا، زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه.

وأصبح رسول الله قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضَب؛ ثم قال: “تعال”، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه؛

 فقال لي: “ما فعلت؟! ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟!” فقلت: بلى والله يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطِيتُ جدلاً -أي فصاحة وقوة كلام-، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك”.

فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك افتقاد رسول الله لك، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟! قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك، فقلت: من هما؟! قالوا: مرة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله عن كلامنا -أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف.

 فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاتكآ وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم أجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، أطوف في الأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟! ثم أصلي قريبًا منه فأرقبه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ-، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة: أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟! فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم؛ ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت حائط الجدار

 قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟! فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيع، فالحق بنا نواسك، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فيممت بها التنور فسجّرته بها.

حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسولُ رسولِ الله يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك؛ فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟! قال: لا، اعتزلها ولا تقربها؛ وأرسل إلى صاحبيَّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي في هذا الأمر.

قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله: إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه، قال: لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه.

 فقلت: والله لا استأذن فيه رسول الله، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى، قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أو من جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك: أبشر؛ قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج، وأذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهبت الناس يبشروننا وذهب قِبَلَ صاحبيَّ مبشرون، وركض إليَّ رجل فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهم.

وانطلقت إلى رسول الله فتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئونني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك، قال: فمشيت حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة؛ قال كعب: فلما سلمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يبرق وجهه من السرور: “أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك”، قال: قلت: أمِنْ عندك يا رسول الله أم من عند الله؟! قال: “لا بل من عند الله”

وكان رسول الله إذا سرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه؛ قلت: يا رسول الله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال رسول الله: “أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك”. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله: إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه -أي أنعم عليه- الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي..

 وأنزل الله -عز وجل- على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [1]التوبة:117-119.

ثم يقول كعب: فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله أن لا أكون كذبته فأهلك، كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال أحد؛ قال الله -عز وجل-: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [2]التوبة:95-96.

قال كعب: وكنا تخلفنا نحن الثلاثة عن أمر أولئك الذي قبل منهم رسول الله حين حلفوا به، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله -عز وجل-: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا…) الآية، وليس الذين ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه”. روى هذا الحديث الإمام البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى-.

المصادر والمراجع والتعريفات

المصادر والمراجع والتعريفات
1 التوبة:117-119
2 التوبة:95-96
قصة الثلاثة الذين خلّفوا  

اقرأ في الموقع