تجد في هذه المقالة:
مفهوم الإيمان بالغيب
تعريف الإيمان الغيب
الغيب لغةً: مصدر الفعل غَابَ، والجمع منه غيوب وغياب، ويضاده الحاضر، والمُشاهد، فيُطلق الغيب على كلّ أمرٍ غُيّب عن الإنسان، سواءً تحقّق في القلب أم لا، فيقال: الأمر في عالم الغيب؛ أي أنّ رؤيته غير ممكنةٍ، وقد تحقّق الجهل به.
الغيب شرعاً: ورد لفظ الغيب في القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد دلّ وروده في القرآن على كلّ ما غاب عن الحواسّ؛ فالغيب كلّ أمرٍ لا يعلمه إلّا الله، وتمّ ذكره في ستةٍ وخمسين موضعاً للدلالة على عدّة معانٍ، وذُكر في السنة النبوية مقروناً بالعلم؛ للدلالة على عدم التناقض بينهما، وللإشارة إلى أنّ الإيمان بالغيب لا بدّ أن يكون متحقّقاً بالقلب، وصولاً به إلى درجة العلم، فالعلم الحقيقي هو العلم بالغيب،
المواضع التي ذُكر بها الغيب في القرآن والسنة:
في القرآن الكريم
– قال الله تعالى :- (أَطَّلَعَ الغَيبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحمـنِ عَهدًا)،
بمعنى كلّ ما غاب عن الحواس.
– قال الله تعالى : (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)،
دلالةً على أنّ الله وحده عالم الغيب.
– قال الله تعالى : (ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)؛
أي الأخبار والأحداث والقصص الماضية التي غابت عن الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
– قال الله تعالى : (مَّا كَانَ اللَّـهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)،
ويُراد بالغيب هنا: ما انفرد بعلمه الله وحده، ولم يُطلع عليه أحداً غيره.
– قال الله تعالى على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ لَاستَكثَرتُ مِنَ الخَيرِ وَما مَسَّنِيَ السّوءُ إِن أَنا إِلّا نَذيرٌ وَبَشيرٌ لِقَومٍ يُؤمِنون)،
دلالةً على نفي علم الرسول للغيب.
في السنة النبوية
– روى الإمام البخاري في صحيحه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (مَفاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ، لا يَعْلَمُها إلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ ما تَغِيضُ الأرْحامُ إلَّا اللَّهُ، ولا يَعْلَمُ ما في غَدٍ إلَّا اللَّهُ، ولا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتي المَطَرُ أحَدٌ إلَّا اللَّهُ، ولا تَدْرِي نَفْسٌ بأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلَّا اللَّهُ، ولا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا اللَّهُ).
– قال -عليه السلام-: (ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهمَّ إني عبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذَهابَ همِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ و حزنَه، و أبدلَه مكانَه فرجًا).
– قالت عائشة -رضي الله عنها-: (مَن حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وهو يُدْرِكُ الأبْصَارَ وهو اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}، {وَما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وحْيًا أوْ مِن ورَاءِ حِجَابٍ}، ومَن حَدَّثَكَ أنَّه يَعْلَمُ ما في غَدٍ فقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}).
– كان الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- يدعو ربّه قائلاً: (اللَّهمَّ بعِلْمِك الغيبَ، وقدرتِك على الخَلْقِ، أحيِني ما علِمْتَ الحياةَ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خيرًا لي، اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُك خشيتَك في الغيبِ والشَّهادةِ).
حقيقة الإيمان بالغيب
معلوم أنّ العقيدة الإسلامية تقوم على أركانٍ ستة، وقد تعدّد مواضع ذكرها في القرآن الكريم والسنة النبوية
قال تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)
ويُعرّف الإيمان بأنّه التصديق بالأمور الغيبية؛ فذات الله غيبٌ، وملائكته غيبٌ، وكُتبه غيبٌ، ورُسله غيبٌ، والآخرة غيبٌ، والقدر غيبٌ، وقد بيّن الله -سبحانه- لعباده في كتابه الكريم ما يحتاجون لمعرفته من أمور الغيب، وأخفى عنهم غيرها، واختصّ -سبحانه- دون غيره بالعلم المطلق للغيب.
وحقيقة الإيمان تقوم على ثلاثة أسس:
قولٌ باللسان، وإقرارٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح
فكلما زادت معرفة المسلم لربّه ولأركان الإيمان استقرّ الإيمان في قلبه ووصل لحقيقة الإيمان؛ فتزيد همّته في سبيل الدعوة وإقامة الشرائع والعبادات والاجتهاد في بذل كلّ ما يستطيع لتحقيق ذلك.
أهمية الإيمان بالغيب
اعتبر العلماء أنّ الإيمان بالغيب ركن التقوى، وتتحقّق التقوى بالإيمان بستة أمورٍ؛ الله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وخير القدر وشرّه،
وحتى يصل الإنسان إلى الإيمان؛ لا بد من تصديقه لكلّ غيبٍ ورد بالدليل، فالتصديق به أمرٌ واجبٌ، لا بدّ من تحقّقه؛ إذ إنّ تصديقة بُني على دليلٍ،
والإيمان بالغيب يقود المؤمن إلى التّفكر والاستدلال؛ فيكون ذلك سبباً في تحصيل العلم بصفات الله -سبحانه- والعلم بالآخرة وغيرها من المغيّبات التي نصّ عليها الدليل؛ فيستحقّ المؤمن بسبب ذلك ثناء المولى عزّ وجلّ،
والإيمان بالغيب ضرورةٌ عقليّةٌ؛ لأنّ الإنسان أدرك أنّ حواسه الخمسة محدودةٌ، لا تستطيع إدراك كلّ ما في الوجود، كما أنّها تختلف لدى الأشخاص، وعدم الإدراك للشيء لا يعني عدم وجوده، فعقل الإنسان قاصرٌ ومحدودٌ، والإيمان لا يكون بالإدراك وحده؛ وإنّما بالتصديق القلبي لما نُقل بالأدلة الشرعية الصحيحة، ولذلك لم يكن العقل الوسيلة الوحيدة لإدراك وجود الله -سبحانه-، بل الفطرة والشعور الداخلي يحقّقان ذلك.
أقسام الغيب
قسّم العلماء الغيب إلى قسمين؛ حسب إمكانية الوصول إليه وإدراكه :
أولاً:- حسب إمكانية الوصول إليه
الغيب المطلق:
وهو الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله، كما أخبرت بذلك السيدة عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الصحيح، فقالت: (ومَن زَعَمَ أنَّه يُخْبِرُ بما يَكونُ في غَدٍ، فقَدْ أعْظَمَ علَى اللهِ الفِرْيَةَ)،
وهذا القسم لا يُمكن إدراكه بالحواسّ، ولا إحاطته بالعقل، ولا الوصول إليه بالخيال؛ كصفات الله.
الغيب النسبي:
فهو الغيب الذي يعلمه بعض الخلق دون البعض، فلا يختصّ الله -عزّ وجلّ- بعلمه، وهو يسمّى غيباً بالنسبة للذي يجهله، أمّا لغيره فهو معلومٌ، وهذا النوع من الغيب يمكن الوصول إليه بالوحي، فالغيب النسبي ينقسم إلى قسمين، هما:
قسمٌ لم يُدركه بعض البشر، ولكن أدركه البعض الآخر، مثل: قصص الأنبياء السابقين؛ كقصة يوسف -عليه السلام-.
قسمٌ لم يدركه البشر، وإن كان من الممكن عقلاً إدراكه إن وُجدوا حين وقوعه؛ كأخبار بداية الحياة البشرية، فلم يدرك الإنسان تلك الأمور إلّا ما ورد بطريق الوحي.
أقسامه حسب وجود الدليل عليه إلى قسمين؛ هما:
النوع الأول:
ما ورد عليه دليلٌ، فهو القسم المعلوم من الغيب، فيُعلم من الغيب ما ورد عليه دليل، وقد عدّ أهل العلم الاستدلالَ بالشاهد على الغائب أحد أنواع الأدلة.
النوع الثاني: ما لم يرد عليه أي دليلٍ، فهذا النوع من الغيب من اختصاص علم الله وحده.
فضل الإيمان بالغيب
للإيمان بالغيب آثارٌ وفضائل عديدةٍ تعود على المؤمن به، يُذكر منها:
– تحقيق الفلاح والهداية في الحياة الدنيا، قال الله تعالى : (أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
– نيل مغفرة الله تعالى والأجر الكبير والثواب الجزيل منه -سبحانه-، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).
– استشعار مراقبة الله -سبحانه- في جميع الأوقات، فالمؤمن بالغيب محميٌ من الوقوع في المحرّمات، فيتجنبها ويبتعد عن الطرق المؤدّية إليها.
– صلاح الإنسان في عمله وسلوكه؛ لأنّه يعلم أنّ الحياة الدنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ، ودارٌ للعمل وليست دار للمقرّ، فيعمل جاهداً للفوز بالجنة في الدار الآخرة.
– الشعور بالطمأنينة والسكينة؛ لأنّ الله -سبحانه- لم يترك أمراً في التشريع الإسلامي يحتاجه الإنسان في الحياة الدنيا؛ إلّا وقد وضّحه وبيّنه، ووضع لكلّ تساؤلٍ إجابةً واضحةً مقنعةً.
– التوكّل على الله، مع الأخذ بالأسباب، وعدم التهاون فيها، وتجنّب التواكل أو عدم الأخذ بالأسباب، احتجاجاً بأن ما قدّره الله سيقع، فيُقبل المسلم على العمل والسعي، وإذا وقع الأمر وتحقّق يصبر ويرضى على ما قدّره الله له