تجد في هذه المقالة:
من هو ريتشارد قلب الأسد؟
من هو ريتشارد قلب الأسد؟
هو الملك الذي اعتلى عرش إنكلترا ما بين عام 1189م وعام 1199م؛ خلفًا لوالده الملك هنري الثاني،
في عمر السادسة عشرة، قاد ريتشارد جيشه، وأخضع التمردات على عرش أبيه هنري الثاني ملك إنجلترا في بواتو .
ولعل أهم إنجازات ريتشارد قلب الأسد استعادته مدنَ السواحل السورية التي خسرها الصليبيون إثر حملات نور الدين زنكي وأسد الدين شيركو، مما أعاد للمالك الصليبيبة هيبتها المسلوبة، وساعدها على خوض الحرب استنزاف طويلة الأمد مع المسلمين في الشام امتدت لحوالي مئة سنة تقريبًا.
مولد ريتشارد ونشأته
ولد ريتشارد في أوكسفورد بمملكة إنكلترا يوم 9 أيلول من عام 1157م، وهو الأخ الأصغر لكونت بواتيه وليام التاسع والملك الشاب هنري وماتيلدا دوقة سكسونيا، ولكونه ثالث الأبناء الشرعيين للملك هنري الثاني
فقد كان من المستبعد تنصيبه ملكا في يوم من الأيام، لكن الأقدار شاءت أن يكون للطفل ريتشارد مكانة مرموقة في التاريخ الذي لم يذكر الكثير عن طفولته التي من الأرجح أنه قضاها في إنكلترا مع بعض الزيارات للقارة الأوروبية مع والدته
صفاته الجسمية، فتذكر كتب التاريخ أنه كان ذا شعرِ أشقرِ مائلِ إلى الحمرة، وكان طويل القامة جذابًا، وقد أظهر منذ طفولته ملامح الذكاء السياسي والدهاء العسكري.
زواج ريتشارد
شاع التحالف عن طريق الزواج بين الممالك الأوروبية في العصور الوسطى، ومع بلوغ ريتشارد أوائل سن الشباب كان من المقترح أن يخطب أليس كونتيسة فيكسن، وهي رابع بنات الملك لويس السابع، لكن الخلاف بين ملوك فرنسا وإنكلترا حال دون الأمر مدّة، حيث رفض والدها فكرة الزواج الذي تأجّل إلى أن عقدت معاهدة السلام سنة 1169م، وحينها تمت الخطوبة بين الشابين الصغيرين بهدف تقوية أواصر القربى بين العائلتين وأوصر العلاقات بين البلدين.
واستمرت الخطوبة لمدة طويلة لكن الزواج لم يتم بينهما، فحين استلم ريتشارد عرش المملكة، وخرج مع الحملة الصليبية اصطدمت مصالحه في البداية مع الملك الجديد لفرنسا فيليب الثاني، وهو شقيق أليس وزاد التوتر حين كانت الحملة في مملكة صقيلية، لكن الخلاف بين الملكين آل في نهاية الأمر إلى صلح تضمن إنهاء الخطوبة بين ريتشارد وأليس.
ثم خطب ريتشارد برنغاريا ابنة سانشيو السادس ملك نافارا، وكان قد تعرف عليها سابقًا في موطنها أثناء إحدى المسابقات، وحين خرجت سفن الحملة باتجاه سواحل بلاد الشام أصابتها عاصفة، وكانت خطيبته برنغاريا مع أخته جوان في سفينة من السفن التي ضلت طريقها، ورست على سواحل قبرص، فاحتجزها الملك إسحاق كومنينوس.
وحين وصلت سفن ريتشارد إلى ميناء ليماسول طلب من الملك إسحاق أن يطلق سراح السجناء، فرفض فرد ريتشارد بالسيطرة على كافة أراضي الجزيرة، ثم أقام مراسم زفافه على برنغاريا، ويذكر المؤرخون أنه كان حفل زفاف باذخٍ أنفق فيه ريتشارد الكثير من الأموال، إلا أن زواجه من برنغاريا لم يثمر أطفالًا فقد عادا من الأراضي المقدسة بعد ذلك منفردين إلى إنكلترا، وفيما تعرض هو للاحتجاز عانت هي أثناء عودتها، فلم يلتقيا، ولم تصل لاحقًا إلى إنكلترا إلا بعد وفاته.
ريتشارد وهنري الثاني
حرّض هنري الشاب الذي يحمل نفس اسم أبيه وأخوته ريتشارد وجيوفيري على الثورة ضد أبيهم هنري الثاني، حيث لم يعجبه أن يحكم أراضيه بإشرافٍ مباشر من والده، وأراد أن يستقلّ عنه بشكل كامل، وأن يسيطر على الخزينة
ويذكر بعض المؤرخين أن إليانور شجعت أبناءها أيضًا على الثورة ضدّ أبيهم، وقد حظي الأخوة الثلاثة بدعم ملك فرنسا لويس السابع الذي أعطى ريتشارد رتبة فارس، وجذب هنري الشاب عددًا كبيرًا من البارونات والقادّة لصفه بعد أن وعدهم بالكثير من الأراضي والأموال، وتواصل الأشقاء مع العديد من القادة المستعدين للثورة داخل أراضي هنري الثاني.
عام 1173م بدأت الثورة، وسيطر المتمردون على عدّة مناطق، وشارك في التمرد وليام الأول ملك إسكتلندا، ونجح التحالف في البداية، لكن الأمور سرعان ما عادت وانقلبت لصالح هنري الثاني، فحين سقطت إليانور أسيرة لدى موالي هنري الثاني اضطر ريتشارد أن يواجه الموالين وحده في أقطانيا، وسط استمرار انتصارات والده الذي عرض على أبنائه الصلح، فرفضوا تنفيذًا لنصيحة لويس السابع
لكن الأمور تدهورت، وانهار جميع المتمردين، وأسِر أغلبهم بيد هنري الثاني، وهزمت جيوش لويس السابع، الذي تخلى عن فكرة غزو إنكلترا، واضطر لقبول الصلح، لكن هنري الثاني استثنى من المعاهدة ابنه ريتشارد، فاضطر ريتشارد للذهاب إلى بلاط أبيه، وطلب المغفرة وحصل على قلعتين من أراضي أبيه لا أكثر.
أرسل هنري الثاني ولده ريتشارد مجددًا إلى أقطانيا ليعاقب القادّة الذين تحالفوا معه ضدّ أبيه، وقد نجح في هذه الحملة نجاحًا باهرًا، حيث سيطر على جميع الأراضي والقلاع رغم مقاومة القادة، وبسبب نجاحه في هذه الحملة حمل لقب قلب الأسد، وفي عام 1181م واجه ريتشارد تمردًا خطيرًا في أنجوليم، واستطاع إخماده بدعمٍ من أبيه وأخيه هنري الشاب.
وفي عام 1183م توفي هنري الشاب ثاني أبناء هنري الثاني، وبهذا أصبح ريتشارد وريثًا شرعيًا لتاج إنكلترا، ولتقوية مكانته تحالف مع فيليب الثاني ابن لويس السابع ملك فرنسا، والذي قرر إنهاء حالة السلام، وانطلق بحملة على إنكلترا انضم إليه فيها ريتشارد معلنًا له الولاء فانتصرت الحملة وهُزمت جيوش هنري الثاني هذه المرّة، واضطر لتنصيب ابنه خليفة له، وتوفي على إثر هذه الأحداث بعد يومين ليخلفه في العرش ريتشارد ملكًا لإنكلترا والنورمندي وأنجو.
ريتشارد والحملة الصليبية
بعد توليه الحكم وافق ريتشارد على قيادة الحملة الصليبية الثالثة مع فيليب الثاني، ولعل أهم أسباب قبولها لقيادة الحملة هو خوف كلّ منهما أن يسيطر الآخر على أملاكه في غيابه، ومرّت مراحل التحضير للحملة ببعض الصعوبات؛ حيث اضطر ريتشارد لزيادة الضرائب على الناس، وباع الكثير من المناصب والأراضي والألقاب بالمال
خلال ستة أشهر فقط امتص ريتشارد موارد إنكلترا بهدف دعم حملته حتى وصفه بعض المؤرخين بالملك السيء، وفي النهاية استطاع ريتشارد جمع 4000 من الجنود المحمّلين بالسلاح مع 4000 من المشاة، ونحو 100 سفينة.
ريتشارد وصلاح الدين الأيوبي
يوم 8 يوليو عام 1191م رست سفن الملك ريتشارد على سواحل عكا، وساهم في السيطرة على المدينة مع جيوش فيليب الثاني، وفرضوا على صلاح الدين عقد اتفاق لتسليم المدينة، واحتفظوا بحوالي 2700 أسير من المسلمين، لكن ريتشارد أعدمهم جميعًا لاحقا لئلّا يعوّقوا انطلاقة الجيش نحو باقي المدن، وفي الأثناء غادر فيليب بسبب مرضه، وبقي ريتشارد يقارع جيوش صلاح الدين، وهزمه بالفعل في أرسوف.
وخلال الحملة الصليبية الثالثة تحالف صلاح الدين مع البيزنطيين، وقد أدركت بيزنطة أنه يجب أن تكون في المنتصف بين الطرفين، فقد كشفت الحملة الثالثة عن أطماع الأوروبيين بأراضي الإمبراطورية البيزنطية، ولا سيما بعد احتلال كافة أراضي قبرص التابعة لبيزنطة آنذاك، ولذلك لم تكن بيزنطة لتقبل بنصرٍ ساحقٍ للصليبيين على المسلمين، وكان هدف بيزنطة عمومًا جعل جميع الأطراف بحاجتها في السلم والحرب.
واستمرت ضراوة المعارك بين ريتشارد وجيوش صلاح الدين، وحاول ريتشارد الاقتراب مرارًا من بيت المقدس؛ لكنه خاف أن يضرب عليها حصارًا طويلا يكون سببًا في هلاكه، واستمرت المعارك سجالًا بين الطرفين؛ لا يستطيع الصليبيون الاقتراب من بيت المقدس، ولا يتمكن صلاح الدين من طردهم من الساحل إلى أن ركن الطرفان أنّه لا بدّ في النهاية من الصلح الذي يخفف على الناس أهوال الحرب التي طال أمدها، وكادت تأتي على الأخضر واليابس.
واتفق الطرفان على الاجتماع بالقرب من اليزك، وطالت بين الملكين المناقشات والمحاورات، وكأن كليهما كان يريد التوصّل إلى الاتفاق، لكن الأمور لم تسر ما يشتهي الطرفان؛ لتتجدد المواجهات ثانيةً بالقرب من الرملة وسط ظروف جوية سيئة، وعادت بعدها ضراوة المعارك بين كر وفر، ثم ركن الطرفان إلى الهدنة التي ساد فيها الهدوء النسبي.
ثم تجددت المفاوضات بين الطرفين بهدف عدم العودة للحرب، وعرض ريتشارد على صلاح الدين تزويج أخته يوهانا أو جوان للملك العادل شقيق صلاح الدين، وهي أرملة ملك صقلية المتوفي، ولم يبد صلاح الدين رفضًا للفكر بهدف دفع الأمور للسلام، إلا أن قصد ريتشارد لم يكن بريئًا، بل وجد صلاح في الأمر مكيدة مبطنة، ثم لم يصلوا إلى اتفاق حول هذه القضية في نهاية الأمر وعلل ريتشارد ذلك برفض أخته لفكرة الزواج من مسلم.
لكن المباحثات ظلّت مستمرة، ولم تتأثر عمومًا، وبعد عام تقريبًا من بدء المفاوضات وتعطلها لأكثر من مرّة توصّل الفريقان إلى صلح سمّي بصلح الرملة، وقد اتفق الطرفان على أن الصلح ليس دائما، بل إن مدته فقط ثلاث سنوات وثمانية أشهر في بعض المصادر، أو ثلاث سنوات وثلاثة أشهر في مصادر أخرى، وقد غادر بعدها ريتشارد عائدًا إلى بلاده.
تذكر المصادر أن الملك ريتشارد كان البادئ دومًا في طلب التفاوض مع صلاح الدين، كما تحدّث المؤرخون عن أنّ العلاقة كانت وثيقة جدًا بين صلاح الدين والملك ريتشارد؛ كانا خلالها خصمين نبيلين وفارسين مقدامين في المعارك، كما كانا نبيلين على طاولة التفاوض التي تجمع بينهما، أما عن بنود الاتفاق، فقد حرص صلاح الدين على ألا تتجاوز المدّة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر على أغلب الأقوال، وأن يحصر الفرنجة بأضيق مساحة في الساحل من صيدا إلى حيفا، وأن تبقى الجبال بيديه ليراقب تحركاتهم، كما قرّر أن يفتح القدس أمام الحجاج من أتباع الديانة المسيحية، وأن يستمر في تقوية حصون المدينة.
أسر ريتشارد واطلاق سراحه وموته
أثناء عودة ريتشارد من المشرق إلى إنكلترا قام دوق النمسا ليوبولد باحتجازه وتم ذلك بمشورة الإمبراطور الجرماني هاينريش الرابع، ثم سلمه ليوبوند إلى الملك هنري السادس الذي تركه أسيرًا في حصن دورنشتاين بخلاف ما تنصّ عليه المعاهدات في أوروبا آنذاك، والتي تنصّ على عدم احتجاز رجال الحروب الصليبية تكريمًا لهم
ثم طلب هنري السادس فدية وقدرها نصف إيرادات التاج الملكي البريطاني، وكان جون الأخ الأصغر لريتشارد يحاول الانقلاب عليه، وحيازة الملك؛ لكنه فشل وهرب إلى فرنسا، وتحالف مع فيليب أغسطس الذي هاجم إنكلترا، واستولى على بعض أراضي ريتشارد، ودفع أموالًا طائلة كرشوة للملك هنري السادس حتى يبقى ريتشارد في محبسه.
أما عن الداخل البريطاني، فقد كان محكومًا من قبل الملكة إليانور بصلابة واقتدار، وفي النهاية حين تم إطلاق سراح ريتشارد ذهب إلى بريطانيا، وجبى الضرائب، وجمع الجند، وهاجم ملك فرنسا فيليب، واستعاد جميع الممتلكات التي خسرها في أثناء احتجازه ثم اختلف مع أحد أتباعه الإقطاعيين على كنز وجده في أراضيه، وهو يدعى أدهمار، وأبى اقتسام الكنز بل أصر ريتشارد على حيازة الكنز كاملًا رغم عرض أدهمار بالتخلي عن نصف الكنز، ولمّا حشد ريتشارد قواته أمام قلعة أدهمار أطلق الرماة سيلًا من السهام أصاب ريتشارد أحدها فأرداه قتيلًا.