تجد في هذه المقالة:
أحداث الهجرة إلى الحبشة ونتائجها
الهجرة في سبيل الله
تُعرَّف الهجرة في اللغة بأنّها: تَرك مكان مُعيَّن، والانتقال إلى مكان آخر،
أمّا الهجرة في سبيل الله، فهي في الاصطلاح الشرعيّ تعني: هجر البلاد التي لا تدين بالإسلام إلى بلاد الإسلام، وقد أمرَ الله -عزّ وجلّ- عباده بتَرك المكان الذي يتعذّر فيه نشر تعاليم الإسلام إلى أرض الله؛ حيث يمكنهم تنفيذ ما أمر الله به، قال الله تعالى : (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)
مراحل الهجرة إلى الحبشة
الهجرة الأولى إلى الحبشة
بعد أنْ اشتدّ أذى مشركي قريش على المسلمين في مكة أشار عليهم النبي -عليه السلام- بالهجرة فراراً بدين الله تعالى وحماية لأنفسهم من بطش المشركين، واختار لهم أرض الحبشة، لأنّ فيها ملكاً عادلاً، لا يقبل الظلم على أحد، وكانت هذه الهجرة أول هجرة من مكة،
كانت في السنة الخامسة من البعثة، وبلغ عدد المهاجرين عشرة رجال وأربع نسوة، وكان منهم: عثمان بن عفان ومعه زوجته رقيّة بنت رسول الله عليه السلام، وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون -رضي الله عنهم-، وغيرهم، حيث خرجوا خفية حتى وصلوا البحر؛ فركبوا السفينة باتجاه الحبشة، وعندما علمت قريش بخبرهم تبعتهم، لكنهم كانوا قد ساروا برعاية الله، ووصلوا الحبشة وأقاموا فيها آمنين بقية رجب وشعبان ورمضان، وكانوا قد وصلتهم أخبار أنّ أهل مكة قد أعلنوا إسلامهم؛ فطفقوا عائدين، وعند مشارف مكة تبيّن لهم أنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ أذى المشركين يزداد على الدعوة ومن آمن بها؛ فاختار بعضم الدخول إلى مكة تسلّلاً، ودخل بعضهم بجوار أحد، واختار بقيّتهم العودة إلى الحبشة.
الهجرة الثانية إلى الحبشة
رجّح بعض المحققين المعاصرين أنّ أحداث الهجرة الثانية إلى الحبشة كانت في أواخر العام العاشر وبداية العام الحادي عشر من البعثة، وقد كانت قريش قد ضاعفت أذاها على المسلمين الممتحنين في دينهم وأنفسهم
فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مجدّداً بالخروج إلى الحبشة؛ فخرج نحو بضعاً وثمانين رجلاً وثماني عشر امرأة، وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بن عميس، وبعد خروجهم لم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عدد قليل ممّن أسلموا معه في مكة
وكان جعفر -رضي الله عنه- أميرهم في هذه الهجرة، أمّا المهاجرون فكانوا بمجموعهم يشكّلون تنوّعاً لكل طبقات المجتمع المكي؛ ففيهم الغني والفقير، والرجال والنساء، والكهل والشباب؛ ممّا يعطي انطباعاً بقوة تأثير الدعوة على النّاس رغم كل ما واجهها من تحديات.
موقف قريش من هجرة المسلمين إلى الحبشة
لمّا أحسّت قريش أنّ وضع المسلمين يصير إلى الطمأنينة والاستقرار في الحبشة، تشاوروا فيما بينهم، واتّفقوا على إرسال شابَّين منهم إلى النجاشيّ؛ كي يطردهم، ويعيدهم إلى مكّة، وجمعوا الكثير من الهدايا، وأرسلوها إليه مع عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، ولم تقتصر الهدايا عليه فقط، بل شَمِلت حاشيته أيضاً، فلم يبقَ أحد إلّا وأهدوه هدية، وحرّضوهم ضدّ من قَدِموا إليهم من مكّة، وأوصوهم بأن يُشيروا على ملكهم بتسليم أهل مكّة إليهم، فوافقوا على ذلك
ثمّ ذهبوا إلى النجاشيّ، وقدّموا له الهدايا الخاصّة به، وقالوا له: “إنّه قد لجأ إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم، لتردّهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه”.
أيّد قوم النجاشيّ رسولَي قريش في كلامهما، فما كان من النجاشيّ إلّا أن رفض ما طلبوه، وأخبرهم أنّه لن يُسلمهم إليهم حتى يأتي بهم، ويسألهم عمّا قالاه فيهم، فإن قالوا إنّه صحيح سلّمهم إليهما، وإلّا فلا، فلمّا أحضرهم وسألهم، تكلّم منهم جعفر بن أبي طالب، وأخبره بما كانوا عليه في الجاهلية من الفسوق، والعصيان، وما هم عليه الآن من توحيد الله، والصدق، والأمانة، وحُسن الجوار، وما تعرّضوا له من تعذيب قريش؛ كي يرتدّوا إلى عبادة الأصنام، وقال له إنّهم اختاروه على من سواه؛ طمعاً فيما عنده من العدل، وحُسن الجوار
فطلب منه النجاشيّ أن يقرأ عليه بعضاً ممّا أُنزِل على نبيّه، فقرأ عليه بعضاً من فواتح سورة مريم، فبكى حتى ابتلّت لحيته، وبكى معه قومه، وأخبر القرشيَّين أنّه لن يُسلّمهم إليهما أبداً.
توعّد عمرو بن العاص للمسلمين، فذهب في اليوم التالي وأخبر النجاشيّ أنّ المسلمين يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، وطلب منه أن يسألهم عن شأنهم فيه، فلمّا سألهم أخبره جعفر بأنّ عيسى بن مريم هو عبدالله ورسوله وروحه، فوافقهم النجاشيّ على ذلك، وأعطاهم الأمان، وأعاد إلى القرشيَّين هداياهما، فخرجا من عنده خائبَين، وعاش المسلمون في بلاد النجاشيّ آمنين مُطمئنِّين.
عودة المسلمين من الحبشة
طالت مدة إقامة المسلمين في الحبشة بعد الهجرة الثانية، حيث ظلّوا هناك إلى ما بعد غزوة خيبر، ولم تكن إقامتهم برغبة منهم، وإنّما بأمر من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ومن الأحداث التي حصلت أثناء وجودهم في الحبشة: الهجرة النبوية إلى المدينة المُنوَّرة، وتأسيس الدولة الإسلاميّة، وعلى الرغم من احتياج النبيّ إليهم؛ لأنّ عددهم كان كبيراً، إلّا أنّه لم يطلب منهم العودة، كما وقع الكثير من الغزوات العظيمة، كبَدر، وأحد، وبني قينقاع، وبني النضير، وصلح الحديبية الذي كان حدثاً مهماً في مسيرة الدعوة الإسلاميّة، والذي به أشعرَ المسلمين بوجودهم،
لمّا أحسّ رسول الله بثبات دولته بعث عمرو بن أمية إلى المهاجرين في الحبشة؛ كي يطلب منهم العودة، وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة بعد فَتح خيبر.
فضل من هاجروا إلى الحبشة
وللصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة منزلة عظيمة عند الله تعالى ، ويتّضح ذلك من خلال حوار أسماء بنت عميس؛ وهي من المهاجرات إلى الحبشة، وبين عمر بن الخطّاب حين كانت زائرة عند حفصة بنت عمر، فدخل عمر عليهما، ولمّا عرف أنّها أسماء، قال لها إنّهم أحقّ برسول الله من الذين هاجروا إلى الحبشة، فغضبت وقالت: (كذَبْتَ يا عُمَرُ كَلَّا، وَاللَّهِ كُنْتُمْ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا في دَارِ، أَوْ في أَرْضِ البُعَدَاءِ البُغَضَاءِ في الحَبَشَةِ، وَذلكَ في اللهِ وفي رَسولِهِ)، وأخبرت رسول الله بما دار بينهما من الحديث،
فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ليسَ بأَحَقَّ بي مِنكُمْ، وَلَهُ وَلأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ، أَهْلَ السَّفِينَةِ، هِجْرَتَانِ)، فزاد الفرح في قلوبهم.