قصة الفارس المخادع والعجوز

أشعة الشمس الحارقة كانت تلفح وجه أبي إدريس ذلك العجوز ابن الثمانين، وقد بلغ من التّعب أشدّه، بينما كان يسير بخطوات خفيفة، متكئاً على عصاه، عائداً إلى قريته بعد أن أمضى عدة أيام في زيارة صديق من أقرانه في إحدى القرى النائية

 لقد كان أبو إدريس رجلاً معروفاً في تلك المناطق، فهو مشهور بين الأهالي بذكائه الحاد الذي لم تغيره سنوات عمره الثمانون، كما كان ذا فراسة لا تخيب، فهو بارع في قراءة تقاسيم وجوه الناس، ومنها كان يكتشف شيئا من طباعهم.

كان العجوز أبو إدريس قد أوشك على إتمام رحلته، فقد بقي أمامه أن يسير لسويعات قليلة حتى يصل منزله، وفي قريته التي لاحت لنظره من بعيد، وبينما هو واقف يستريح، ويمسح عرقه، إذا بوقع حوافر حصان يعدو من خلفه، فالتفت ببطء إلى مصدر الصوت، ليرى فارساً مقبلاً من بعيد، يتجه صوبه.

بدأ الفارس يقترب من العجوز، وشيئاً فشيئاً، أخذت ملامح وجهه تتضح، بينما كان العجوز أبو إدريس يراقبه باهتمام شديد، ثم قال: أكاد أجزم بأن الرجل المقبل هو محتال ومخادع.

تمهل الفارس وهو يقترب من العجوز، وعندما وصل إلى جانبه، أوقف حصانه وسلم عليه، بينما كان أبو إدريس العجوز يراقبه ويحدق في ثنايا وجهه، فقال الفارس: إني لأعجب لحالك يا عماه، كيف تستطيع السير راجلاً في هذه الشمس الحارقة، ولا أرى معك شيئاً من الزّاد والماء.

لكن العجوز لم يجبه، فقد كان غارقاً في قراءة تقاسيم وجه الرجل، وهو يقول في سره: أظن أني قد وقعت على رجل محتال، فعيناه تشبهان عينا لص نحيل قد سرق جملاً، ويحاول أن يخفيه خلف جسمه.

قال الفارس: قلبي ينبئني، بأن التّعب قد نال نصيباً منك يا عماه، ولذلك أرجو أن تتفضل وتتكرم بركوب حصاني بدلاً مني، فأنت رجل عجوز متعب، بينما أنا شاب يستطيع السير راجلاً، قال الرجل ذلك وهو ينحني، بعد أن ترجل عن حصانه

هنا شعر العجوز أبو إدريس بالذهول، لأن الرجل بادره بعمل يدل على حسن الخلق، ورفض ركوب الحصان في البداية، ولكنه فيما بعد، وافق نتيجة إلحاح الرجل، وتابعا   السير، والعجوز أبو إدريس حائر في أمره، لأن فراسته التي لم تخطئ مطلقاً تقول بأنه مخادع

 في الوقت الذي يمتطي فيه حصان الرجل، فكيف ذلك؟. ولكن الأمر الأدهى، هو أن الرجل أيضاً كان يتفرس ومتأملاً وجه أبي إدريس، وكأنه يحاول معرفة خبايا العجوز الذي ازداد حيرة، ووجد نفسه في موقف لا يحسد عليه

وعندما خاطبه الرجل قائلاً، وكانا قد تعارفا: لعلك يا عماه تريد أن تشرب، فإني أحسبك ظمأنا، وهنا يملا الغيظ قلب العجوز، وهو يتمتم غاضباً في سره: من أي نوع هذا الرجل، في البداية أحسبه مخادعاً، لأجد نفسي مخطئاً، وفوق ذلك يتأملني فيعلم أنني تعب، وعطشان، وكأنني لم يكن ينقصني سواه.

وبعد أن يروي العجوز عطشه، يشكر الرجل ويتابعان السير، باتجاه قرية أبي إدريس، ومال فكاد أن يقع عند الحصان عندما استوقفه الرجل قائلاً وهو يبتسم بخبث: لعل العم أبا إدريس، يستطيع أن يأكل، فإني أحسبه جائعا

فصرخ العجوز قائلاً بحنق، وهو يدير وجهه إلى الجهة الأخرى بعيداً عن الرجل: كلا، لا أريد طعاماً، لست جائعاً، ولكن أبا إدريس أكل من طعام الرجل، بل وأكل كثيراً، لأنه كان جائعا بالفعل.

قال العجوز في نفسه: ما هذا الرجل؟! والله لقد انقضت سنوات عمري، ولم أشاهد له مثيلاً، لقد كرهته، وكرهت ضيافته، وأحمد الله أنه ولم يعد يملك أي شيء ليطعمني أو يسقيني به بعد الآن، اللهم إلا حلوى اللوذينج التي هيهات أن تكون معه في هذه الصحراء

ولكن والرجل يقطع عليه تفكيره قائلاً والخبث الشديد يشع من عينيه وهو يضحك: لعل العم أبا إدريس، يستطيع أن يأكل شيئاً من حلوى اللوذينج، فإنني أحسبه مشتهياً له، فما كان من العجوز إلا أن سقط عن الحصان لهول المفاجأة.

فقال الفارس: يا عم، أفق أرجوك، ماذا دهاك؟!، منذ قليل كنت بكامل صحتك وعافيتك، فماذا حصل لك؟

وأخيرا، يستيقظ العجوز وهو يهذي، وقد ظنّ أن الرجل وهو ابنه إدريس: إدریس يا ولدي متى وصلت إلى هنا؟ آه لا، أنت لست إدريس؟ أعطني لأشرب أيها الرجل، لا أريد منك لوذينج على الإطلاق، أريد ماء فقط ولكن العجوز  أبا إدریس بدأ يتعافى بعد هنيهة، ليأكل الكثير من حلوى اللوذينج، فقد كانت الحلوى لذيذة الطعم، طيبة المذاق .

قال الفارس: هكذا إذاً يا عماه، قلت إن مختار قريتكم هو أبو وإسماعيل؟

أجابه العجوز: تقصد المرحوم أبا إسماعيل، فقد توفي منذ عام تقريبا.

أعلم هذا، فقد وصلني الخبر المؤسف في حينه، أنظر لهذه الدنيا كيف تفرق الأحباب والأصحاب، لقد كان أبو إسماعيل صديقي العزيز وكانت لدينا أعمالنا وتجارتنا المزدهرة

وهنا رغب العجوز بشدة في أن يضرب الرجل بعصاه على أم رأسه، ضربة لا يقوم بعدها، فقد كان متأكداً من كذبه، ولكن ما من سبيل لإثبات ذلك، فسأله محاولا الإيقاع به: هل من أصدقاء كانوا معكم، عندما كنتم أنتم والمرحوم أبو إسماعيل شركاء في التجارة؟

أجابه الفارس: نعم بالتأكيد، ولكنك لن تعرفهم فهم ليسوا من قريتكم.

قال العجوز: لا عليك أنت قل لي من هم، وبالتأكيد سأعرفهم، فأنا أعرف الجميع حتى سبعين قرية في كل اتجاه.

يصمت الرجل قليلاً بينما يفكر، ثم يجيب مع ابتسامة تظهر أسنانه الصفراء: كان معنا أبو الأشتر من قرية ساقية الغنم، وأبو منجل من الوادي.

قال العجوز: أعرف من ذكرتهم، ولكن الأول منهما مات منذ زمن،

فيقاطعه الرجل قائلاً: أعلم ذلك أعلم وأعلم أيضاً أن أبا منجل قد جن وفقد عقله لقد ملأ الغيظ قلب العجوز المسكين أبي إدريس، فانبرى جانباً ووضع يده على فمه وهو يقول بصوت خافت، وخشية أن يسمعه الرجل: والله يا هذا يبدو أن رحلتنا معاً، لن تنتهي قبل أن تجعلني مثل أبي منجل مجنوناً، أسرح في البراري مع والدواب.

أصر الرجل على أن يوصل العجوز أبا إدريس راكباً حتى باب داره، فدخلا القرية ولكن ثمة سؤال كان يدور في خلد العجوز لم يجد له جواباً: آه يبدو أنني كبرت وأصبحت خرفاً، لأن فراستي قالت: هذا الرجل مخادع، كيف يكون مخادعاً طالما أنه أطعمني، وسقاني، وأعطاني جواده لأركبه، وأطعمني من الحلوى، ولم أستطع أن أكذبه في قصة تجارته، فقد توارى خلف أبي منجل، الحق أنها قصة لم تحدث معي من قبل. يصل الرجلان حتى باب دار أبي إدريس الذي يدعو رفيقه للدخول فيعتذر منه.

وعندما يهم العجوز الحزين بدخول داره، يستوقفه الرجل قائلا: انتظر يا عماه، فثمة شيء أخير أريده منك، استدار العجوز، مستفهماً؟ 

قال الرجل: نسيت أن تعطيني مالاً مقابل خدماتي وطعامي، يكفيني دينار وكم كان ذهول المخادع كبيراً عندما رمى إليه العجوز عشرة دنانير وهو يقول ضاحكاً، وقد ظهرت على تقاسيم وجهه المتجعد علامات السّعادة كطفل صغير: تريد دينارا؟ هاك عشرة، واحداً لقاء أتعابك وطعامك، وأربعة لأجل فراستي، وثلاثة لسلامة عقلي من الجنون بسببك، واثنين من أجل أبي منجل.

قصة الفارس المخادع والعجوز
  • views
  • تم النشر في:

    قصص و عبر

  • آخر تعديل:
  • قم بنسخ الرابط المختصر أدناه من زر النسخ لمشاركته:

    https://gnram.com/?p=9253

اقرأ في الموقع