تجد في هذه المقالة:
الموشحات الأندلسية : غناء وجمال
تعريف الموشحات
الموشحات فن شعري نشأ في الأندلس خلال القرن الثالث هجري ، ونقول الموشَّح أو التوشيح ، ووشّح المرأة : أي ألبسها الوشاح وهو قلادة من نسيج عريض مرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها ؛ ووشّح الخطيب خطبته بالآيات : أي زينها بها .
إذاً: الموشح فن شعري مستحدث يختلف عن ضروب الشعر الغنائي العربي في أمور عدة وذلك للاتزامه بقواعد معينة في التقنية وبخروجه غالبا على الأعاريض الخليلية وباستعمال اللغة الدارجة أو العجمية في خرجته. و الموشح كلام منظوم على وزن مخصوص
سبب تسميتها بالموشحات
سمي موشحاً لأناقته وتنميقه تشبيهاً له بوشاح المرأة. إن الموشحات الشعرية إنما سميت بذلك لأن تعدد قوافيها على نظام خاص جعل لها جرساً موسيقياً لذيذاً ونغماً حلواً تتقبله الأسماع، وترتاح له النفوس، وقد قامت القوافي فيها مقام الترصيع بالجواهر واللآلئ في الوشح فلذلك أطلق عليها (الموشحات) أي الأشعار المزينة بالقوافي والأجزاء الخاصة، ومفردها موشح ينظم فمعناها منظومة موشحة أي مزينة؛
من الذي اخترع فن الموشحات ؟
لقد تضاربت الأقوال والآراء في أصل من سبق لهذا الفن ، وسنعرض آراء السابقين وأقوالهم :
– قال ابن بسام ( صاحب كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ) : ” وأول من صنع أوزان هذه الموشحات بأفقنا واخترع طريقتها – فيما – بلغني – محمد بن محمود القبري الضرير ” .
– قال ابن خلدون : ” وكان المخترع لها ( أي فن الموشحات ) بجزيرة الأندلس مقدم بن معافي الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله بن عبد ربه الأندلسي صاحب كتاب العقد ، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكسدت موشحاتهما ، فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية ” .
سبب اختراع فن الموشحات
ذهبت بعض الأقوال إلى أن أصل فن الموشحات يعود إلى فرق فرنسية من المغنيين تسمى ” بالتروبادور ” ، كانت تؤم البلاد الإسبانية من جنوب فرنسا لتغني للنبلاء طلبا للجوائز والعطاء ، وكانت هذه الأغاني عبارة عن قطع لا ضابط لها ولكن لها شبه بأوزان ومقاطع الموشحات الأندلسية .
لكن تم نقض هذه الأقوال من طرف العديد من النقاد والأدباء لضعف حجتها ، وعدم وجود أي دلائل أو نصوص لهذه الأغاني تدعو للمقارنة والتمحيص .
كما كان هناك رأي آخر يرجع أصل فن الموشحات إلى المشرق ، وأن موشحة ” أيها الساقي ” للشاعر العباسي ابن المعتز ، أول موشحة في الأدب العربي ، حيث قال في مطلعها :
أَيُّها الساقي إِلَيكَ المُشتَكى* * * * قَد دَعَوناكَ وَإِن لَم تَسمَع
وَنَديمٌ هِمتُ في غُرّتِه* * * * وَشَرِبت الراحَ مِن راحَتِه
كُلَّما اِستَيقَظَ مِن سَكرَتِه* * * * جَذَبَ الزِقَّ إِلَيهِ وَاِتَّكا
* * * * وَسَقاني أَربَعاً في أَربَع
ولكن علماء الأدب يشكون في نسبتها إليه لأن مؤرخي ابن المعتز لم يذكروا موشحته هذه التي رويت لشاعر آخر أندلسي يقال له الحفيد بن زهر ، ولأن المؤرخين أجمعوا على القول أن الموشحات من مستنبطات الأندلسيين .
مما تتألف الموشحات ؟
تتألف الموشحات من عناصر وأصول تنقسم على الشكل التالي :
1 – القفل ( الأسماط )
هو بيت أو عدة أبيات من الشعر تبتدئ بها الموشحات في أغلب الأحيان ، وتتكرر قبل كل بيت منها . ويسمى القفل سمطا لأنه كالقلادة في الموشح ؛ ويشترط في الاقفال التزام القافية والوزن والأجزاء وعدد الابيات الشعرية.
والقفل لا يكون أقل من جزئين ، وقد تبلغ أجزاؤه الثمانية وهي قليلة:
2 – البيت
هو ما نظم بين القفلين من أبيات شعرية ، وهو يسمى الدور . ويشتمل البيت على أجزاء تسمى أغصانا وهي تتعدد بتعدد الأغراض والمذاهب . ويتألف البيت على الأغلب من من ثلاثة أجزاء وقد يتألف من جزأين أو ثلاثة أجزاء ونصف .
ويتألف جزء البيت من فقرتين أو ثلاث أو أربع فقرات ، وقد يكون الجزء مفردا أي غير مؤلف من فقرات . ومن شروط الأبيات أن تكون كلها متشابهة وزنا ونظاما وعدد أجزاء ؛ وأما الرويّ فيحسن تنويعه .
ومن عادة الموشح أن يبدأ بقفل وينتهي بقفل ، وأن يتردد فيه القفل ست مرات ، فإن كان الأمر كذلك سمي الموشح تاما ؛ وإن بدأ الموشح بالبيت سمي أقرع . وهكذا يتردد القفل خمس مرات في الموشح الأقرع وست مرات في الموشح التام .
3 – الخرجة
هي القفل الأخير من الموشح . وقد اشترطوا فيها أن تكون فكاهة ، ملحونة الألفاظ ، جارية على لسان ناطق أو صامت ؛ فهي عادة عامية غير معربة إلا في بعض المدح .
قال ابن بقي :
ليل طويل
وما معين
يا قلب بعض الناس
أما تلين
وتكون الخرجة قولا مستعارا على بعض الألسنة ، وأكثر ما تُجعل على ألسنة الصبيان والنسوان والسكارى . ولا بد في البيت الذي قبل الخرجة من : قال ، أو قلتُ ، أو غنى ، أو غنيتُ .
أنا وأنتا
أسوة هذا الحجر
بالصبر بنتا
عند انصداع الفجر
ومذ رحلتا
غنى الجوى في صدري
مكونات الموشح الأندلسي
وتتألف الموشحة غالبا من خمس فقرات، تسمى كل فقرة بيتا.
والبيت في الموشحة ليس كالبيت في القصيدة، لأن بيت الموشحة فقرة أو جزء من الموشحة يتألف من مجموعة أشطار، لا من شطرين فقط كبيت القصيدة. وكل فقرة من فقرات الموشحة الخمس ينقسم إلى جزأين:
الجزء الأول مجموعة أشطار تنتهي بقافية متحدة فيما بينها ومغايرة في الوقت نفسه للمجموعة التي تقابلها في فقرة أخرى من فقرات الموشحة.
أما الجزء الثاني من جزئي بيت الموشحة، فهو شطران ـ أو أكثر ـ تتحد فيها القافية في كل الموشحة. والجزء الأول الذي تختلف فيه القافية من بيت إلى بيت يسمى غصنا، والجزء الآخر الذي تتحد قافيته في كل الموشحة، يسمى قفلا.
أغراض فن الموشحات
أوجد الموشح ، أول الأمر للغناء وكان من أغراضه الغزل والخمر والمجون ووصف الطبيعة . لكن ما لبث أن توسع الشعراء في معاني الموشحات فنظموها في الهجاء والرثاء والتصوف والزهد .
خصائص فن الموشحات
بالإضافة إلى الجمع بين الفصحى والعامية تميزت الموشحات بتحرير الوزن والقافية وتوشيح، أى ترصيع، أبياتها بفنون صناعة النظم المختلفة من تقابل وتناظر واستعراض أوزان وقوافى جديدة تكسر ملل القصائد،
وتبع ذلك أن تلحينها جاء أيضا مغايرا لتلحين القصيدة، فاللحن ينطوى على تغيرات الهدف منها الإكثار من التشكيل والتلوين، ويمكن تلحين الموشح على أى وزن موسيقى لكن عرفت لها موازين خاصة غير معتادة في القصائد وأشكال الغناء الأخرى.
مختارات شعرية من فن الموشحات
قال السرقسطي مادحا :
غزال له مقلة ساحره * * * * وأنجمه أنجم زاهره
ولمّته لمّة عاطره * * * * وكل العيون له ناظره
وجسم أذاه لباس الفتك * * * * كمثل اللجين إذا ما انسبك
هو الشمس لكنه أجمل * * * * هو البدر لكنه أكمل
هو الصبح لكنه أفضل * * * * فليس على الأرض من يعدل
—
موشح من أقوال الحصري القيرواني
ياليل الصب متى غده * * * * أقيام الساعة موعدهُ؟
رقد السُّمَّارُ وأرّقهُ * * * * أسفٌ للبين يردِّدُّهُ
فبكاه النّجم ورق لهُ * * * * مما يرعاه ويرصدهُ
كلفٌ بغزالٍ ذي هيفٍ * * * * خوف الواشين يشرِّدهُ
نصبت عيناي له شركاً * * * * في النوم فعزّ تصيدهُ
وكفى عجباً أني قنصٌ * * * * للسِّرب سباني أغيدهُ
ينضو من مقلته سيفاً * * * * وكأن نعاساً يغمدهُ
فيريق دم العشاق به * * * * والويل لمن يتقلَّدهُ
كلا لا ذنب لمن قتلت * * * * عيناه ولم تقتل يدهُ
يا من جحدت عيناه دمي * * * * وعلى خدَّيهِ تورُّدهُ
خداك قد اعترفا بدمي * * * * فعلام جفونك تجحدهُ..؟
إنّي لأعيذك من قتلي * * * * وأظنك لا تتعمدهُ
بالله هب المشتاق كرىً * * * * فلعلَّ خيالك يسعدهُ
ما ضرَّك لا داويت ضنى * * * * صبٍّ يدنيك وتبعدهُ
يا أهل الشوق لنا شرقٌ * * * * بالدمع يفيض مورّدهٌ
ما أحلى الوصل وأعذبه * * * * لولا الأيام تنكدهُ
بالبين وبالهجران فيا * * * * لفؤادي كيف تجلُّدهُ
—
ابن سهيل الإشبيلي، أحد شعراء القرن السابع الهجري:
هـل درى ظبي الحـمى أن قد حمى قلـب صـب حلـه عـن مكـنس
فـهو فـي حـر وخـفـق مـثلمـا لـعبت ريـح الصبـا بـالقبـس
***
يـا بـدورا أطلعـت يـوم الـنوى غـرورا تسـلك فـي نـهج الغـرر
مـا لعـينـي وحـدها دنب الهـوى منكـم الحسن ومن عينـي النظـر
أجتنـي بالـذات مـكـروه الجـوى والتـذاذي مـن حـبيبـي بـالفكـر
وإذا أشـكـوه وجـدى بـسـمـا كـالربـى والعـارض المنبجـس
وإذ يقـيـم القطـر فيـهـا مـأتمـا وهـي مـن بهجتهـا فـي عرس
***
مـن إذا أمـلـى عـليـه حرقـى طـارحتنـي مـقلتـاه الدنفـا
تـركـت ألحـاظه مـن رمـقـي أثـر النـمل علـى صم الصفـا
وأنـا أشـكـره فيمـا بقـى لسـت ألحـاه علـى مـا أتلفـا
وهـو عـندي عـادل إن ظـلمـا ونصـيحـي نطقـه كـالحـرس
لـيس لي فـي الأمر حكم بعد مـا حـل مـن نفسـي محـل النفـس
—
قال ابن بقي :
بمهجتي شادن تياه * * * * من نور شمس الضحى مرءاه
من ذكره تعذب الأفواه * * * * قد جردت للورى عيناه
سيفا كأن ضباه القدر * * * * أو القضاء لا يبقي ولا يذر
—
ونختم برائعة ابن الخطيب وموشح ” جادك الغيث ” :
جـادك الغيـث إِذا الغيـث همـى * * * * يـا زمـان الـوصل بـالأَندلسِ
لـم يكـن وصْلُـك إِلاّ حُلُما * * * * فـي الكـرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ
إذ يقـود الدّهـرُ أَشـتاتَ المُنـى * * * * ينقـلُ الخـطوَ عـلى مـا يرسـمُ
زُمَـرًا بيـن فُـرادى وثُنًـى * * * * مثـل مـا يدعـو الوفـودَ الموْسـمُ
والحيـا قـد جـلَّل الـرّوض سـنا * * * * فثغـور الزّهـرِ فيـه تبسـمُ
وروى النُّعمـانُ عـن مـاءِ السّـما * * * * كـيف يَـروي مـالِكٌ عـن أنَسِ؟
فكسـاه الحُسـن ثوبا معلما * * * * يـزدهي منـه بـأبهى مَلبسِ
فـي ليـالٍ كـتَمَتْ سـرَّ الهـوى * * * * بـالدُّجى لـولا شـموس الغُـرَر
مـال نجـمُ الكـأس فيهـا وهـوى * * * * مسـتقيمَ السّـيرِ سَـعْدَ الأَثَـرِ
وطَـرٌ مـا فيـه مـن عيـبٍ سـوى * * * * أَنّـه مـرّ كـلمْح البصَـرِ