المناظرة التي قتلت سيبويه ( المسألة الزنبورية )
تعتبر‘ المسألة الزنبورية ‘ أشهر مناظرة في تاريخ علم النحو ، جمعت بين ، عالم النحو سيبويه ، وشيخ القراءات وعلوم اللغة الكسائي ، فكيف حدثت هذه المناظرة ؟ ولمن كانت الغلبة ؟
روي أن عالم النحو سيبويه قصد بغداد قادما من البصرة ، لقضاء حوائج خاصة به ، وفي رواية أخرى لضائقة مالية جعلته يمر بضيق وشدة ، وحدث أن قصد يحيى البرمكي وزير الخليفة هارون الرشيد ، فأكرمه وأوسع له ، واستقبله بحفاوة ، وبعد أن طاب المستقر لسيبويه طلب من الوزير.
ثم عُرض عليه أن يناظر زعيم مدرسة النحو في الكوفة ، العالم الجليل الكسائي ، فوافق على ذلك مسرورا ما دام الغرض من هذه المناظرة الخروج بالعلم والفائدة .
وللعلم فإن أشهر مدرستين اختصتا بدراسة وتدريس علم النحو وفنونه ، مدرسة الكوفة بزعامة الكسائي ، ومدرسة البصرة بزعامة سيبويه الذي أثبت نفسه وغزارة علمه بالرغم من كونه شابا يافعا ، ولا عجب فهو تلميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي . وبالرغم من اختلاف المدرستين في كثير من المسائل النحوية ، إلا أن هدفهم الخالص كان خدمة لغة القرآن .
المناظرة
اجتمع سادة القوم ووجهائهم ، وأمر الوزير يحيى بتوفير أطيب الأماكن ليرتاح العالمين في مناظرتهما ، وبدأت المناظرة …
بداية المناظرة
في الحقيقة هي مسائل كثيرة ناقشها كل من سيبويه والكسائي ، فأظهر كل واحد منهما براعته ومهارته ، لكن المحور الأهم في المناظرة كلها كان حول ‘ المسألة الزنبورية ‘ ، وهو سؤال وجهه الكسائي لسيبويه قائلا :
: كيف تقول : كنتُ أظن أن العقربَ أشد لسعة من الزنبور[1] الزنبور : حشرة تشبه النحلة ولسعتها جد مؤلمة فإذا هو هي ، أم فإذا هو إياها ؟
فقال سيبويه : فإذا هو هيَ ، ولا يجوز النصب .
الكسائي : لقد أخطأت ، بل الصحيح النصب فنقول : فإذا هو إياها .
وطال النقاش حيث يروي البعض أن سيبويه برع وأجاد في تقديم حججه ودلائله ، إلى أن وصلا إلى سؤال الكسائي حيث قال :
الكسائي : كيف تقول : خرجتُ فإذا عبد الله القائمَ ، أو القائمُ ؟
سيبويه : فإذا عبد الله القائمُ ، ولا يجوز النصب أيضا .
الكسائي : العرب ترفع ذلك كله وتنصبه كذلك .
نهاية غير متوقعة للمناظرة
وطال الخلاف بينهما والذي دار مجمله على الرفع والنصب وأصل ذلك كله مسألة الزنبور ، فعرض عليه الكسائي أن يتم إحضار مجموعة من الأعراب الأقحاح الذين ينطقون باللغة السليمة فطرة ، فوافق على ذلك ، وهنا نفتح القوس أمام مجموعة من الروايات المختلفة التي يدور بعضها على أن الكسائي وأصحابه أقنعوا الأعراب بأن ينتصروا له ، لكن العلماء الثقاة يكذّبون هذه الروايات نظرا لاسم الإمام الجليل الكسائي الذي وهب حياته للعلم والدراسة ، وبالتالي مستحيل أن يلجأ لمثل هذه الأعمال .
لكن الأرجح أن في الأمر تدخل سياسي من وراء الكواليس جعل أصحاب القصر يقنعون الأعراب بأن يقفوا بصف الكسائي ، وبالفعل حينما وقفوا أمامهما وسألهم عن صحة القول ، رجحوا كفة الكسائي ، فطلب منهم سيبويه أن يؤكدوا ذلك وينطقون الجملة ، فلم تطاوعهم ألسنتهم على ذلك وتهربوا ، وفي ذلك إشارة على أن سيبويه محق .
فلم يكن لسيبويه إلا الإذعان للأمر ، وقبل أن يرحل أعطاه الوزير كيسا مليئا بالمال ، فقصد سيبويه بلاد فارس وفي قلبه شيء كبير من هذه المناظرة ، ولم تمض سوى مدة قصيرة حتى مات ، وبغض النظر عن حيثيات هذه المناظرة أو ماهية المنتصر ، فسيتبين لنا مدى عناية سلفنا بالعلوم والدراسة والتقدم ، لأجل الرقي بالأمة وحضارتها .
أبيات خالدة تذكر المسألة الزنبورية
أورد القارطاجاني في منظومته ، حيث يقول :
والعُرب قد تحذف الأخبار بعد إذ * إذا عنت فجأة الأمر الذي دهما
وربما نصبوا للحال بعد إذا * وربّما رفعوا من بعدها ربما
فإن توالى ضميران اكتسى بهما * وجهُ الحقيقة من إشكاله غمما
لذاك أعيت على الأفهام مسألة * أهدت إلى سيبويه الحتف والغُمما
قد كانت العقرب العوجاء أحسبها * قدما أشدّ من الزنبور وقعَ حُما
وفي الجواب عليها هل “إذا هو هي” * أو هل “إذا هو إياها” قد اختصما
وخطّأ ابن زياد وابن حمزة في * ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما
وغاظ عمرا علي في حكومته * ياليته لم يكن في أمره حكما
كغيظ عمرو عليا في حكومته * ياليته لم يكن في أمره حكما
وفجّع ابن زياد كل منتخب * من أهله إذ غدا منه يفيض دما
كفجعة ابن زياد كل منتخب * من أهله إذ غدا منه يفيض دما
وأصبحت بعده الأنفاس باكية * في كل طرس كدمع سَحَّ وانسجما
وليس يخلو امرؤ من حاسد أضِم * لولا التنافس في الدنيا لما أُضما
والغبن في العلم أشجى محنة علمت * وأبرحُ الناس شجوا عالم هُضما
المصادر والمراجع والتعريفات
↑1 | الزنبور : حشرة تشبه النحلة ولسعتها جد مؤلمة |
---|