قصص عن الحسد والحاسدين
القصة الأولى
(الوزير الحاسد والخليفة )
حكي أن رجلا من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمه ، وصار يدخل على حريمه من غير استئذان . وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده ، وقال في نفسه : إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه .
فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به الى منزله ، فطبخ له طعاما ، وأكثر فيه من الثوم ، فلما أكل البدوي منه قال له : احذر أن تقترب من أمير المؤمنين ، فيشم منك رائحة الثوم ، فيتأذى من ذلك فإنه يكره رائحته .
ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين ، فخلا به وقال : يا أمير المؤمنين إن البدوي يقول عنك للناس : إن أمير المؤمنين أبخر وهلكت من رائحة فمه .
فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين جعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة الثوم ، فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال : إن الذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح ، فكتب أمير المؤمنين كتابا إلى بعض عماله يقول فيه :
إذا وصل إليك كتابي هذا ، فاضرب رقبة حامله ، ثم دعا البدوي ودفع إليه الكتاب ، وقال له : امض به إلى فلان وائتني بالجواب . فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين وأخذ الكتاب وخرج به من عنده .
فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير ، فقال : أين تريد ؟ قال : أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان . فقال الوزير في نفسه : إن هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل ، فقال له : يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك ، ويعطيك ألفي دينار ؟ فقال : أنت الكبير ، وأنت الحاكم ، ومهما رأيته من الرأي أفعل .
قال : أعطني الكتاب ، فدفعه إليه ، فأعطاه الوزير ألفي دينار ، وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده ، فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير .
فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي ، وسأل عن الوزير ، فأخبر بأن له أياما ما ظهر ، وأن البدوي بالمدينة مقيم ، فتعجب من ذلك وأمر بإحضار البدوي ، فحضر ، فسأله عن حاله ، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها ، فقال له :
أنت قلت عني للناس أني أبخر ؟
فقال : معاذ الله يا أمير المؤمنين أن اتحدث بما ليس لي به علم ، وإنما كان ذلك مكرا منه وحسدا ، وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه . فقال أمير المؤمنين : قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله . ثم خلع على البدوي واتخذه وزيرا وراح الوزير بحسده .
—
القصة الثانية
(درس يلقى على حاسد)
قال المنصور بن أبي عامر يوما لأبي يوسف الرمادي ( شاعر معروف ) : كيف ترى حالك معي ؟
فقال : فوق قدري ودون قدرك . فأطرق المنصور كالغضبان ،
فانسل الرمادي ، وخرج وقد ندم على ما بدر منه ، وجعل يقول : أخطأت ، لا والله ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق ! ما كان ضرني لو قلت له : إني بلغت السماء ، وتمنطقت بالجوزاء ! وأنشد :
متى يأت هذا الموت لا يُلفِ حاجة * * * * * لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
ولما خرج كان في المجلس من يحسده على مكانه من المنصور ، فوجد فرصة
فقال : وصل الله لمولانا الظفر والسعد ، إن هذا الصنف صنف زور وهذيان ، لا يشكرون نعمة ، ولا يرعون إلا ولا ذمة ؛ كلاب من غلب ، وأصحاب من أخصب ، وأعداء من أجدب ؛ وحسبك منهم أن الله جل جلاله يقول فيهم :
” والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم تر أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ما لا يفعلون ” . والابتعاد عنهم أولى من الاقتراب ؛ وقد قيل فيهم : ما ظنك بقوم الصدق يستحسن إلا منهم !
فرفع المنصور رأسه – وكان محامي أهل الأدب والشعر – وقد اسود وجهه ، وظهر فيه الغضب المفرط ؛ ثم قال : ما بال أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه ؛ ويسيئون الأدب بالحكم فيما لا يدرون : أيرضى أم يسخط ! وأنت – أيها المنبعث للشر دون أن يبعث – قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة ، وحسدك لهم ، لأن الناس كما قال القائل :
من رأى الناسُ له فض * * * لا عليهمْ حسدوه
وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصة ، ولسنا – إن شاء الله – نبلغ أحدا غرضه في أحد ؛ وإنك ضربت في حديد بارد ، وأخطأت وجه الصواب ؛ فزدت بذلك احتقارا وصغارا ، وإني ما أطرقت من كلام الرمادي إنكارا عليه ؛ بل رأيت كلاما يحل عن الأقدار الجليلة ، وتعجبت من تهديه له بسرعة .
والله لو حكمته في بيوت الأموال لرأيت أنها لا ترجح ما تكلم به قدر ذرة ، وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو تأديبا وإنكارا ؛ فإنا من نريد إبعاده لم نُظهر له التغير ، بل ننبذه مرة واحدة ؛ والتغير إنما يكون لمن يُراد استبقاؤه .
ثم أمر أن يرد الرمادي ، وقال له : أعد علي كلامك ، فارتاع . فقال : الأمر على خلاف ما قدرت ، الثواب أولى بكلامك من العقاب ، فسكن لتأنيسه ، وأعاد ما تكلم به ، فقال المنصور : بلغنا أن النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدر لكلام استملحه منه ، وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك وبما هو أنوه وأحسن عائدة .